هناك دائماً ما هو أخطر من تهمة "تغيير المسار" وعدم الاستقرار على رأي التي يتوجس منها العديدون في إدارة الرئيس بوش: وهي أن ترفض تغيير المسار وتصر على الثبات عليه بعدما اتضح أن المسار نفسه بُني على خطأ. هذا الكلام أتوجه به إلى الرئيس بوش باعتباري شخصاً خبر كيف يمكن لقضايا العالم المُعقدة التي تنخرط فيها الولايات المتحدة أن تتحول إلى مجال للتوظيف السياسي وتحقيق المصالح الضيقة على حساب المصلحة العليا لأميركا. فرغم الكلمات الرنانة التي تطلقها الإدارة من حين إلى آخر حول عدم الاستسلام وضرورة المضي قدماً في الحرب في العراق يشي الواقع الماثل أمامنا بأمور مختلفة تماماً. فمع استمرار تواجد قواتنا في العراق وسط العنف المتنامي ونذر الحرب الأهلية الوشيكة، أو القائمة فعلاً، لم يعد ثمة مجال للمماحكة السياسوية على حساب المصالح الحقيقية. فالإصرار على عدم تغيير المسار في العراق، في ظل هذا الوضع، خوفاً من التداعيات السياسية المحتملة على طرف سياسي بعينه، يتحول إلى أمر خطير للغاية، بل أكثر من ذلك يتحول إلى عمل لاأخلاقي. وبالنسبة لي فإنني أفضل ألف مرة تغيير سياساتي ومواقفي في أي وقت، على أن اضطر إلى الوقوف أمام أحد أهالي الجنود وإخبارهم بأن فلذة كبدهم لاقى حتفه في العراق من أجل إنقاذ سياسة تبين مسبقاً أنها عرجاء، ولا تستقيم. وهذا لا يعني أنه على أحدنا أن يبحث لنفسه عن انتقام سهل يشفي غليله من خصومه السياسيين بشأن ما يجري في العراق اليوم. فالدرس المستخلص من تجربتنا هناك ليس أن أحدنا كان على صواب والآخر على خطأ، بل الدرس ببساطة هو تغيير سياساتنا في العراق بالسرعة الكافية، بدل استخدام الأخطاء المرتكبة والأرواح التي أزهقت كمبرر للإمعان في ارتكاب المزيد من الهفوات، والاستمرار في فقدان المزيد من الأرواح. فعندما يقتل الأميركيون ويشوَّهون كل يوم تقريباً في العراق، وعندما يترنح الشرق الأوسط برمته على شفا ثلاث حروب أهلية مدمرة، فإن أي "تصميم" مهما بلغ نبله يتحول في النهاية إلى عناد لا مبرر له، كما يتحول الحسم إلى نوع من التهور المجاني. لذا يعتبر تغيير التكتيكات على ضوء التطورات المستجدة في الميدان، وبلورة استراتيجيات جديدة بعدما فشلت القديمة في تحقيق المرجو منها، أكثر ذكاء من اجترار السياسات نفسها ذات النتائج الكارثية. إن نصف القتلى الأميركيين الذين سقطوا في حرب فيتنام قضوا بعدما أدرك القادة الأميركيون أن استراتيجية الحرب في فيتنام لم تعد تجدي. فهل يمكن القول إن وزير الدفاع الأميركي وقتها "روبرت ماكنمارا" كان صلب العزيمة باستمراره في إرسال القوات الأميركية للموت في حرب كان يعرف هو نفسه أنه لا يمكن الانتصار فيها؟ الحقيقة أن التاريخ لا يتذكر صلابة عزيمته بقدر ما يتذكر رفضه لمواجهة الواقع وتغيير سياساته لإنقاذ حياة الجنود الأميركيين. وحتى عندما حل "كلارك كليفور" خلفاً للوزير "ماكنمارا" عام 1968 وجد نفسه مقيداً وعاجزاً عن إخراج أميركا من ورطتها بسبب الميول المختلفة للرئيس الأميركي "ليندون جونسون". ومع ذلك أجرى وزير الدفاع الجديد مراجعة شاملة لسياسة أميركا في فيتنام وخلص إلى أنه "لا يمكن تحقيق أي شيء إضافي من خلال القوة العسكرية، وأن الوقت قد حان للبدء في فك الارتباط". وفي الوقت الذي ترك فيه منصبه رفض الترخيص بإرسال المزيد من القوات الأميركية إلى فيتنام، وأيد وقف القصف الأميركي، ثم حث على بدء سحب القوات على نحو تدريجي. فهل كان "كليفورد" متخاذلاً في تنفيذ السياسات المرسومة، أم أنه أظهر شجاعة ورباطة جأش عندما تمسك بقناعاته؟ علينا ألا نضيع المزيد من الوقت بترديد أن الاعتراف بأخطائنا، وليس الأخطاء ذاتها، هو ما يعطي لأعدائنا فرصة لتحريك آلتهم الدعائية وإعلان النصر. إذ يكفي ما أهدرناه من وقت في الإصرار على القول إنه لا خيار أمامنا سوى المضي قدماً في نفس السياسات الفاشلة. فقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد ينفع معها الإمعان في العناد. بل حتى ما نسمعه أحياناً من أنصاف حلول تسعى إلى إنقاذ الوضع العراقي المتردي تخبرني تجربتي الشخصية بأنها لن تفضي سوى إلى تعقيد الأمور أكثر ومفاقمة المشاكل الحالية. ولعل "مجموعة دراسة العراق" توضح ذلك بجلاء بتأكيدها أن الوضع في العراق "خطير وآخذ في التدهور"، وهو ما يعضده الخبراء سواء داخل العراق، أم خارجه، من أنه لا توجد حلول عسكرية للأزمة السياسية. ورغم تحذيرات وزير الدفاع السابق كولن باول، والجنرال "جون أبي زيد"، فضلاً عن هيئة الأركان المشتركة، إلا أن واشنطن مازالت مُصرة على تعزيز القوات الأميركية في العراق وتعريض الجنود إلى الأذى وسط حرب أهلية متصاعدة. فقد سبق أن جربنا نسخة مشابهة، وإن في حدود أقل، لخطة النائب "ماكين" الداعية إلى الزيادة في عديد القوات الأميركية في العراق، حيث قمنا بإرسال 15 ألف جندي إلى بغداد في الصيف الماضي دون أن ينجح ذلك في كبح العنف المتواصل، أو الحد من الحرب الأهلية المشتعلة. وحتى لو قمنا بإرسال 100 ألف جندي إضافي إلى بغداد لن تنجح مساعي وقف الحرب، ما لم يجلس العراقيون على طاولة المفاوضات ويتوصلوا إلى تسوية سياسية، وإلا سيستمر سقوط الأميركيين في حرب العراقيين. وظني أن فوهة المسدس لن تستطيع معالجة إشكالية تغليب القومية العراقية على الولاء الطائفي الذي يمزق العراق في هذه الأثناء. وفي ظل هذا الوضع بالغ التعقيد لا يبدو من أمل سوى دفع العراقيين إلى إبرام صفقة سياسية مستدامة تعالج القضايا الخلافية الأساسية المتمثلة في الفيدرالية، وتوزيع عائدات النفط، ثم تحييد الميلشيات الطائفية. ولن يتحقق ذلك ما لم تحدد الولايات المتحدة جدولاً زمنياً لسحب القوات من العراق. وفي هذا الإطار منح، في شهر مايو الماضي، كل من الجنرال "جورج كيسي"، قائد القوات الأميركية في العراق، والسفير الأميركي في العراق "زلماي خليلزاد" مهلة حُددت في ستة أشهر للحكومة العراقية لإجراء التسويات السياسية اللازمة. غير أن تحديد موعد دون وضع آليات لتطبيقه لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون. فكم من مرة علينا أن نرى أن الإنجازات السياسية التي تحققت في العراق لم تأتِ إلا عبر التهديد بالانسحاب مثل نقل السلطة إلى العراقيين، وتنظيم الانتخابات والاستفتاء حول الدستور، كي نوضح هذه المرة للعراقيين أننا سننسحب من العراق، وأننا لن نضحي بحياة الأميركيين لحل خلافاتهم السياسية؟ أما المثال الآخر على تحول قوة العزيمة إلى عناد غير مبرر فيبرز في المقاربة التي نعتمد عليها حالياً في التعامل مع الدول المجاورة للعراق. فخلال الأسبوع المنصرم عندما التقيت إلى جانب السيناتور "كريستوفر دود"، مع الرئيس السوري بشار الأسد أوضحنا له بجلاء ما تنتظره الولايات المتحدة منه، لمسنا استعداداً سورياً للتعاون معنا على تجنيب وقوع العراق في كارثة محققة، وهو الاستعداد الذي يتعين علينا تجريب صدقيته. وهنا لابد من أن تتخلى واشنطن عن سياسة الوقوف جانباً والتمسك العنيد بمقولة إن الحديث مع أعدائنا يكافئ الأنظمة المناوئة. فلست في حاجة للتذكير بأن الحوار لا يعني الاستسلام، ولا بأن السياسة الخارجية الناجحة تستدعي اغتنام الفرص وتغيير السياسات كلما تغيرت الحقائق، وهو أمر لا يمكن أبداً نعته بالتخاذل، أو الاستسلام، بل إنها القوة بعينها. جون كيري ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مرشح "الديمقراطيين" في انتخابات 2004 ، سيناتور أميركي من ولاية ماساتشوسيتس ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"